فصل: (سورة الأنبياء: آية 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنبياء: آية 107]:

{وما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)}.
أرسل صلى الله عليه وسلم {رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر اللّه عينا غديقة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها، نعمة من اللّه ورحمة للفريقين، ولَكِن الكسلان محنة على نفسه، حيث حرمها ما ينفعها. وقيل: كونه رحمة للفجار، من حيث إنّ عقوبتهم أخرت بسببه وأمنوا به عذاب الاستئصال.

.[سورة الأنبياء: آية 108]:

{قُلْ إِنَّما يُوحى إلى أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}.
{إنما} لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن إِنَّما يُوحى إلى مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. و{أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار اللّه بالوحدانية: وفي قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أن الوحى الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد للّه، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن تكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى: أن الذي يوحى إلى، فتكون ما موصولة.

.[سورة الأنبياء: الآيات 109- 111]:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)}.
آذن: منقول من أذن إذا علم، ولَكِنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه}، وقول ابن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء

والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد اللّه وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك عَلى سَواءٍ أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم، وقشر العصا عن لحائها. و{ما تُوعَدُونَ} من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولابد من أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدرى متى يكون ذلك لأن اللّه لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه، واللّه عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، و{ما تَكْتُمُونَ} في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه.
وما أدرى لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم إِلى حِينٍ ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

.[سورة الأنبياء: آية 112]:

{قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)}.
قرئ {قل} و{قالَ} على حكاية قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. و{رَبِّ احْكُمْ} على الاكتفاء بالكسرة. و{رب احكم} على الضم. و{ربى أحكم} على أفعل التفضيل. و{ربى أحكم} من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى {بِالْحَقِّ} لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم، كما قال: «اشدد وطأتك على مضر» قرئ {تَصِفُونَ} بالتاء والياء.
كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب اللّه ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وخذلهم. عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم «من قرأ {اقترب للناس حسابهم} حاسبه اللّه حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبىّ ذكر اسمه في القرآن». اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه} يعني دعا ربه.
ذكر قصة أيوب عليه السلام:
قال وهب بن منبه: كان أيوب رجلًا من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوازم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير مالا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة، كان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو ربع أو خمس وفوق ذلك، وكان الله تعالى قد أعطاه أهلًا وولدًا من رجال ونساء وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرًا لأنعم الله، مؤديًا لحق الله قد امتنع عن عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من أمر الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه: رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير، ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما تلدد والآخر صافر كان لهؤلاء مال، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسد والبغي، فصعد سريعًا حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدًا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك، قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله.
فانقص عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب هي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال.
فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارًا من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس: اذهب فأن الإبل ورعاتها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوساها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض وإعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائمًا يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة: الحمد لله هو أعطانيها وهو أخذها، وإنها مال الله أعارنيها وهو أولى بها، إذا شاء نزعها.
قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئًا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئًا لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى التراب وعريانًا أحشر إلى الله، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرًا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدًا ولَكِنه علم منك شرًّا فأخرك.
فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئًا ذليلًا فقال: ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قبله.
قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه.
قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتًا من عند آخرها مات رعاتها، فجاء إبليس متمثلًا بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول، فرد عليه مثل الرد الأول، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحًا عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه.
قال: فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك، حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلًا بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأول فرد عليه أيوب مثل رده الأول، وجعل إبليس يصف ماله مالًا مالًا حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه، ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعًا حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال الله: انطلق فقد سلطتك على ولده.
فانقض عدو الله حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده، وجعل جدره يضرب بعضها بعضًا برميهم بالخشب والحجارة، فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم، وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلًا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: يا ليت أمي لم تلدني.
فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعًا بالذي كان من جزع أيوب مسرورًا به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى الله وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئًا ذليلًا وقال: إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال الله: انطلق فقد سلطتك على جسده لَكِن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله، وكان الله أعلم به، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب.
فانقض عدو الله إبليس سريعًا إليه فوجد أيوب ساجدًّا فعجل قبل أن يرفع رأسه، فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة.
فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة، ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا: تب إلى الله من الذنب الذي عوقبت به.
قال: وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى: إنك تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولَكِن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه سخط شيئًا من أمره منذ أتاه الله ما أتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئًا من الكرامة التي أكرمه الله بها ولا أن أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا.
فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك دليلًا على سخطه عليهم، ولا لهوائهم عليه، ولَكِنها كرامة وخيرة لهم ولو كان أيوب ليس من الله بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجعل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولَكِنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فالله الله أيها الكهول، وقد كان بي عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلمون أن لله عبادًا أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولَكِنهم إذا ذكروا عظمة الله أنقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظامًا لأمر الله وإجلالًا، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار براء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء.
قال أيوب عليه السلام: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فإذا نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيمًا في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من الله سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال: أتيتموني غضابًا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانًا لعل الله أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبًا سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم.
وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد على من مصيبتي.
ثم أعرض عنهم أيوب، وأقبل على ربه مستغيثًا به متضرعًا إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي.
ألم أكن للغريب دارًا وللمسكين قرارًا ولليتيم وليًّا وللأرملة قَيِّمًا إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنُّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضًا، وللفتنة نصيبًا، وقد وقع على من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي.
وإن قضاءك هو الذي أذلني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيَّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولَكِنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه.